الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين أما بعد...
تمر في حياتنا قصص وتشهد تجارب على الصعيدين الشخصي والعام يغنينا بعضها بفوائد نخلص من خلالها إلى جملة عبر ومواعظ تترك بصماتها على تصرفاتنا، وتطبع مواقفنا بجملة من السلوكيات والأخلاق الحميدة. ولطالما حفل تراثنا الإسلامي بمثل هذه المواقف الإنسانية التي أثمرت حكمًا ومآثر أضفت عليه وعلى الحضارة العربية غنى.
وفي هذه القصة والتي سبقها من القصص التي فيها عبرة سرد لبعض الحكايات التي تروى عن أشخاص واجهوا المشاكل وصارعوا المصاعب وتمكنوا من التغلب عليها والخروج منها بحكمة وعبرة، فعسى أن تكون هذه العبرة حافزًا لنا لبذل المعروف واجتناب الخطأ وتتبع الصواب.
صـاحب الوجـهين
يُحكى أن رجلاً من أهل التجارة، معروفًا باحتراف المهنة والمهارة/ فبالدراية وحكمة التدبير، اكتنز صرة من الدنانير/ وأراد مرة أن يسافر، ويترك البلاد كي يتاجر/ وهمّ بالسفر مع أصدقائه، ولكنه خشي على أبنائه/ من الفقر والجوع واحتياج المال، ففكر بعض الشىء وقال:/ إن تركتُ الصرة، مع زوجتي هذه المرة/ فإنها لمسرفة، بطبعها مترفة/ وإن قلبي يخاف، من ءافة الإسراف/ وأخشى على الدنانير، من قلة التدبير وكثرة التبذير/ وسأترك عند الجار، من الصرة ألف دينار./ وإلى دار جاره ذهب، ليترك عنده بعض الذهب/ فقال له الجار الماكر، أنا لحسن ظنك شاكر/ وصلت إلى دار الأمان، والأمانة والاطمئنان/ لا تضيع عندي الوديعة، ولا أعرف المكر والخديعة/ عهد الأمانة لا نخون، بل أوفياء لها نكون/ سافِرْ مطمئن البال، واترك هاهنا المال، فالدنيا بخير لا تزال/
فأوصاه الرجل بالأم والأولاد، وقبل أن يترك تلك البلاد/ للزوجة قال: إذا احتجتِ لمال/ فاطلبي القدر الكافي، من الجار ولا تخافي/ أوصيته فيكِ، فهو يعطيكِ/ وغاب الرجل ومضت الأيام، إلى أن عاد بعد ثلاثة أعوام/ فلما عاد، سأل أم الأولاد/ هل أخذتِ شيئًا من الجار؟ قالت: منعني رغم الإصرار، لا فلس ولا درهم ولا دينار/
وغضب الرجل لما حصل، وقصد الجار ما إن وصل/ فقال: أتنسى الأمانة، هل اعتدت الخيانة؟/ قال أغرب عن وجهي يا كذاب، ليس بيننا عتاب أو حساب/ فقال: والمال؟/ فأُخرِجَ مطرودًا مذمومًا، مشتومًا مظلومًا/ فصار ينادي التاجر في السوق، لا تضيع عند الله الحقوق/ إلى أن علم بالأنباء، رجل من الأشداء/ فقال: ماذا لو رُدَّ المال
عليك، وصار بين يديك لديك/ قال أشكرك على الشهامة، وأدعو لك بالسلامة، والعِزة والكرامة/ فقال: عندي خطة أكيدة، ترد على الظالم المكيدة/ عندما نذهب إلى جارك الكذّاب، أدخُل أنا وتبقى أنت عند الباب/ وعندما تسمع الجار يقول: نحن أهل الوفا والأصول، تقرع الباب وتسعى للدخول/ وتنظر إليّ وكأني غريب، وتطلب الأمانة ثم تغيب/ وراحا معًا إلى دار الكذّاب، ووقف المظلوم عند الباب، ودخل الآخر بأفخر الثياب/ فرأى
المخادعَ المكار، وقال له: يا صاحب الدار/ ما رأيك لو أتاك أحد التجار، الذين ينقلون عبر البحار/ بضائع عديدة، ثمينة جديدة/ وهو غريب عن هذه المدينة، زوجته مريضة مسكينة/ ويريد الذهاب إليها ويترك السفينة، في حفظ أيدٍ أمينة/ فقال له المخادع الماكر: أنا لحسن ظنك شاكر/ وصلت إلى دار الأمان، والأمانة والاطمئنان/ لا تضيع عندي الوديعة، ولا أعرف المكر والخديعة/ عهد الأمانة لا نخون، بل أوفياء لها نكون/ سافِرْ مطمئن البال،
واترك هاهنا المال، فالدنيا بخير ما تزال/ وهنا دخل المظلوم إلى الدار، وقال: لي عندك ألف دينار/ فقال: مالك المصان، بلا تلف ولا نقصان/ فلما نال، ذلك المال/ خرج الاثنان في طمأنينة ، فنادى الكذاب: أين السفينة/ فقيل له: لنسترجع ألف دينار، أُوتيت سفينة من وراء البحار/ فلا بد أنك تريد المدينة بما فيها لتسترجع السفينة/ وفوجئ المظلوم والظالم، لمّا علما أن الرجل الشهم هو الحاكم.
اللهم اجعلنا من الذين إذا وعدوا صدقوا بوعدهم وإذا حُمِّلوا أمانة كانوا على قدر ما حُمِّلوا...